فصل: الآية رقم ‏(‏187‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏187‏)‏

أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ‏}‏

هذه رخصة من اللّه تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة، والرفثُ هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن، وقال الربيع‏:‏ هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن، وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا‏.‏

وكان السبب في نزول هذه الآية ما روي أن أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وإن قيس بن صرمةالأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال‏:‏ هل عندك طعام‏؟‏ قالت‏:‏ لا ولكنْ أنطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت‏:‏ خيبة لك أنمت‏؟‏ فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - وكلو واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ ففرحوا بها فرحاً شديداً، ولفظ البخاري عن البراء قال‏:‏ لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم‏}‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلُّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن‏}‏ الآية‏.‏

وعن أبي هريرة في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ قال‏:‏ كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلُّوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وإن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام، ولم يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العشاء فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك فأنزل اللّه عند ذلك‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ يعني بالرفث مجامعة النساء، ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم‏}‏ يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء، ‏{‏فتاب عليكم وعفا عنك فالآن باشروهن‏}‏ يعني جامعوهن ‏{‏وابتغوا ما كتب اللّه لكم‏}‏ يعني الولد، ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ فكان ذلك عفواً من اللّه ورحمة، وقال ابن جرير‏:‏ كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت‏:‏ إني قد نمت، فقال‏:‏ ما نمت، ثم وقع بها‏.‏ وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن كعب بن مالك‏"‏الآية‏.‏ فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتغوا ما كتب الله لكم‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة‏:‏ يعني الولد، وقال عبد الرحمن ابن زيد بن اسلم‏:‏ ‏{‏وابتغوا ما كتب الله لكم‏}‏ يعني الجماع، وقال قتادة‏:‏ ابتغوا الرخصة التي كتب اللّه لكم، يقول ما أحل اللّه لكم‏.‏ واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏، أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع، في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل، وعبّر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله‏:‏ ‏{‏من الفجر‏}‏، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل اللّه بعدُ ‏{‏من الفجر‏}‏ فعلموا أنما يعني الليل والنهار ‏"‏أخرجه البخاري عن سهل بن سعد‏"‏وعن عدي بن حاتم قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود‏}‏ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض، قال‏:‏ فجعلتهما تحت وسادتي، قال‏:‏ فجعلت أنظر إليهما فلما تبيَّن لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما اصبحت غدوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال‏:‏ ‏(‏إن وسادك إذن لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل‏)‏ ‏"‏أخرجاه في الصحيحين‏"‏وجاء في بعض الألفاظ‏:‏ ‏(‏إنك لعريض القفا‏)‏ ففسره بعضهم بالبلادة، ويفسره رواية البخاري أيضاً قال‏:‏ ‏(‏إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال‏:‏ لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار‏)‏‏.‏

 فصل

وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر، دليل على استحباب السحور، لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب ولهذا وردت السنّة الثابتة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحث على السحور‏.‏ ففي الصحيحين عن أنَس قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تسحروا فإن في السحور بركة‏)‏ وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور‏)‏، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏السحور أكلة بركة فلا تَدَعوه ولو أن أحدكم تجرَّع جرعة ماء، فإن اللّه وملائكته يصلون على المتسحرين‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري‏"‏ويستحب تأخيره كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال‏:‏ تسحرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، فقال أنَس قلت لزيدٍ‏:‏ كم كان بين الأذان والسحور‏؟‏ قال‏:‏ قدر خمسين آية‏.‏ وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن أبي ذر الغفاري‏"‏‏.‏

وحكى ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها‏.‏ قلت‏:‏ وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نص القرآن في قوله‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏، وقد ورد في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر‏)‏‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير‏)‏ ‏"‏رواه مسلم عن سمرة بن جندب‏"‏وعن عطاء‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً، ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب، وقال عطاء‏:‏ فأما إذا سطع سطوعاً في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء، وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله‏.‏

مسألة ومن جعْله تعالى الفجرَ غايةً لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام، يستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأًم سلمة رضي اللّه عنهما أنهما قالتا‏:‏ كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يصبح جنباً من جماع من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم، وفي حديث أُم سلمة عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ يقتضي الإفطار عند غروب الشمس كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم‏)‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي‏"‏وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يقول اللّه عزَّ وجلَّ‏:‏ أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرا‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والترمذي‏"‏ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال، وهو أن يصل يوماً بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئاً، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تواصلوا‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏!‏ إنك تواصل، قال‏:‏ ‏(‏فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني‏)‏‏.‏ قال فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي صلى اللّه عليه وسلم يومين وليلتين، ثم رأوا الهلال فقال‏:‏ ‏(‏لو تأخر الهلال لزدتكم‏)‏ كالمنكل لهم ‏"‏أخرجه أحمد والشيخان‏"‏وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏:‏ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا‏:‏ إنك تواصل، قال‏:‏ ‏)‏إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني‏)‏، فقد ثبت النهي عنه من غير وجه، وثبت أنه من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويالا حسياوإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي ولكن كما قال الشاعر‏:‏

لها أحاديث من ذكراك تشغلها * عن الشراب وتلهيها عن الزاد

وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر‏)‏ قالوا‏:‏ فإنك تواصل يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعمٌ يطعمني وساقٍ يسقيني‏)‏ ‏"‏أخرجاه في الصحيحين‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان، فحرّم اللّه عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه، وقال الضحّاك‏:‏ كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامَع إن شاء، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏ أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره‏.‏ وهذا الذي حكاه هو الأمر المتفق عليه عند العلماء، أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بُدّ له منها، فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، من قضاء الغائط أو الأكل، وليس له أن يقبِّل امرأته، ولا أن يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعود المريض لكن يسأل عنه هو مارّ في طريقه، وللإعكاف أحكام مفصلة في بابها، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه‏.‏

وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام، إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام، كما ثبت في السنّة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه اللّه عزّ وجلّ، ثم اعتكف أزواجه من بعده‏.‏ وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف في المسجد، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها، وكان ذلك ليلاً، فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم يمشي معها حتى تبلغ دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار، فلما رايا النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم أسرعا ‏"‏وفي رواية‏"‏تواريا - أي حياءً من النبي صلى اللّه عليه وسلم لكون أهله معه - فقال لهما صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏على رسلكما إنها صفية بنت حيي‏)‏ أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي فقالا‏:‏ سبحان اللّه يا رسول اللّه‏!‏ فقال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً‏)‏ ‏"‏رواه ابخاري ومسلم‏"‏قال الشافعي رحمه اللّه‏:‏ أراد عليه السلام أن يعلِّم أمته التبري من التهمة في محلها، لئلا يقعا في محذور، وهما كانا أتقى للّه من أن يظنا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم شيئاً والله أعلم‏.‏ ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك، فأما معاطاة الشي ونحوه فلا بأس به، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدني إليَّ راسه فأرجّله وأنا حائض، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله‏}‏ أي هذا الذي بيّناه وفرضناه وحدّدناه من الصيام وأحكامه، وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه ‏{‏حدود الله‏}‏ أي شرعها اللّه وبيَّنها بنفسه ‏{‏فلا تقربوها‏}‏ أي لا تجاوزوها وتتعدوها‏.‏ وقيل في قوله‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله‏}‏ أي المباشرة في الاعتكاف، ‏{‏كذلك يبين الله آياته للناس‏}‏ أي كما بيَّن الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم، ‏{‏للناس لعلهم يتقون‏}‏ أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الذي ينزِّل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم‏}‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏188‏)

‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة أنهم قالوا‏:‏ لا تخاصمْ وأنت تعلم أنك ظالم، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ قال إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها‏)‏، فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يُحِلُّ في نفس الأمر حراماً هو حرام، ولا يحرم حلالاً هو حلال وإنما هو ملزم في الظاهر‏.‏ فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وتُدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون‏}‏ أي تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏189‏)‏

‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون ‏}‏

سأل الناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس‏}‏ يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم، ووقت حجهم، وقال الربيع‏:‏ بلغنا أنهم قالوا‏:‏ يا رسول اللّه لم خلقت الأهلة‏؟‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس‏}‏ يقول جعلها اللّه مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، وعدة نسائهم، ومحل دينهم‏.‏ وعن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً‏)‏ ‏"‏رواه الحاكم في المستدرك‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها‏}‏، قال البخاري عن البراء‏:‏ كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها‏}‏ وقال الحسن البصري‏:‏ كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً، وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوره من قبل ظهره، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها‏}‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله لعلكم تفلحون‏}‏ أي اتقوا اللّه فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ غداً إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏190 ‏:‏ 193‏)‏

قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ‏.‏ واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ‏.‏- 192 - فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ‏.‏ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ‏}‏

هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقاتل من قاتله وكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة كذا قال ابن أسلم حتى قال‏:‏ هذه منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ وفي هذا نظر، لأن قوله‏:‏ ‏{‏الذين يقاتلونكم‏}‏ إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذي همتهم قتال الإسلام وأهله، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال‏:‏ ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة‏}‏ ولهذا قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخجروهم من حيث أخرجوكم‏}‏ أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين‏}‏ أي قاتلوا في سبيل اللّه ولا تعتدوا في ذلك، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏(‏اغزوا في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الوليد، ولا اصحاب الصوامع‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال‏:‏ ‏(‏اخرجوا باسم اللّه قاتلوا في سبيل اللّه من كفر باللّه، لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود‏"‏وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى اللّه عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل النساء والصبان‏.‏

ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال، نبّه تعالى على ان ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به الصد عن سبيله أبلغُ وأشدُّ وأعظم وأطم من القتل، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏والفتنة أشد من القتل‏}‏ قال ابو العالية ومجاهد وعكرمة‏:‏ الشرك أشد من القتل، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام‏}‏ كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إن هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل إلا ساعة من نهار - وإنها ساعتي هذه - فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخّص بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقولوا‏:‏ إن اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم‏)‏ ‏"‏أخرجه الشيخان‏"‏يعني بذلك صلوات اللّه وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة وقيل صلحاً لقوله‏:‏ ‏(‏من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين‏}‏ يقول تعالى‏:‏ ولا تقاتلوهم عن المسجد الحرام إلا ان يبدأوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل، كما بايع النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف اللّه القتال بينهم فقال‏:‏ ‏{‏وهو الذي كفَّ أيديهم عنكم وايديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن انتهوا فإن اللّه غفور رحيم‏}‏ أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن اللّه يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم اللّه فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه، ثم أمر اللّه بقتال الكفار ‏{‏حتى لا تكون فتنة‏}‏ أي شرك قاله ابن عباس والسدي ‏{‏ويكون الدين لله‏}‏ أي يكون دين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين‏}‏، يقول تعالى‏:‏ فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل، أو يكون تقديره ‏{‏فإن انتهوا‏}‏ فقد تخلصوا من الظلم والشرك فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان ههنا المعاقبة والمقاتلة كقوله‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏، ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ قال عكرمة وقتادة‏:‏ الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا اللّه، وقال البخاري قوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ عن ابن عمر قال‏:‏ أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا‏:‏ إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى اللّه عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج‏؟‏ فقال‏:‏ يمنعني أن اللّه حرم دم أخي‏.‏ قالا‏:‏ ألم يقل اللّه‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين للّه، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير اللّه‏.‏ وعن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل اللّه عزّ وجلّ وقد علمت ما رغب اللّه فيه‏؟‏ فقال‏:‏ يا ابن أخي بني الإسلام على خمس‏:‏ الإيمان باللّه ورسوله، والصلاة الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت‏.‏ قالوا‏:‏ يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر اللّه في كتابه‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر اللّه‏}‏، ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ قال‏:‏ فعلنا على عهد رسوله صلى اللّه عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يفتن في دينه وإما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال‏:‏ فما قولك في علي وعثمان‏؟‏ قال‏:‏ أمّا ‏"‏عثمان‏"‏فكان اللّه عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه، وأمّا ‏"‏علي‏"‏فابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وختنه، فأشار بيده فقال‏:‏ هذا بيته حيث ترون ‏"‏الحديث من رواية البخاري‏"‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏194‏)‏

‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ لما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معتمراً في سنة ست من الهجرة، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان من المسلمين، وأقصه اللّه منهم فنزلت في ذلك هذه الآية‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص‏}‏ وعن جابر بن عبداللّه قال‏:‏ لم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وتغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ ‏"‏رواه أحمد، قال ابن كثير‏:‏ إسناده صحيح‏"‏ولهذا لما بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل، وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين، بايع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان، وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل إليها فحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق واستمر عليها إلى كمال أربعين يوماً، كما ثبت في الصحيحين عن أنس، فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح، ثم كر راجعاً إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً عام ثمان صلوات اللّه وسلامه عليه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏ أمر بالعدل حتى في المشركين، كما قال‏:‏ ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ أمر لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏195‏)‏

‏{‏وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ‏}‏

قال البخاري عن حذيفة‏:‏ ‏{‏وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ نزلت في النفقة‏.‏ وعن أسلم أبي عمران قال‏:‏ كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام رجل يزيد بن فضالة ابن عبيد فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا‏:‏ سبحان اللّه ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب‏:‏ يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز اللّه دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا‏:‏ لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها، فأنزل اللّه هذه الآية ‏"‏أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، واللفظ لأبي داود‏"‏

وعن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ قال‏:‏ ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلق بيدك إلى التهلكة‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏، قال‏:‏ هو البخل، وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ أن يذنب الرجل الذنب فيقول لا يُغفر لي فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن اللّه يحب المحسنين‏}‏ وقيل‏:‏ إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له فيلقي بيده إلى التهلكة، أي يستكثر من الذنوب فيهلك‏.‏ وقيل‏:‏ إن رجالاً كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغير نفقة، فأما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالاً، فأمرهم اللّه أن يستنفقوا مما رزقهم اللّه ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلُكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي، وقال لمن بيده فضل ‏{‏وأحسنوا إن الله يحب المحسنين‏}‏ ومضمون الآية الأمرُ بالإنفاق في سبيل اللّه في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوّهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده، ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال‏:‏ ‏{‏وأحسنوا إن الله يحب المحسنين‏}‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏196‏)‏

‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب ‏}‏

لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد، شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة، وظاهرُ السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما، ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم‏}‏ أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها‏.‏ عن عبد اللّه بن سلمة عن علي أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ قال‏:‏ أن تحرم من دويرة أهلك‏.‏ وعن سفيان الثوري أنه قال‏:‏ إتمامهما أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريباً من مكة قلت‏:‏ لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزىء ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره، وقال مكحول‏:‏ إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات، عن الزهري قال‏:‏ بلغنا أن عمر قال‏:‏ من تمامهما أن تُفرد كل واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج، إن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ وقد ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست و عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع و عمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان و عمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر، وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانىء‏:‏ ‏(‏عمرة في رمضان تعدل حجة معي‏)‏ وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري، ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وقال ابن عباس من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل، وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنَس وجماعة من الصحابة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه‏:‏ ‏(‏من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة‏)‏، وقال في الصحيح أيضاً‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل اللّه في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة، وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظاراً للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصَّر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏رحم اللّه المحلقين‏)‏، قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول اللّه، فقال في الثالثة‏:‏ ‏(‏والمقصرين‏)‏، وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة وكانوا ألفاً وأربعمائة، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل‏:‏ بل كانوا على طرف الحرم‏.‏ فاللّه أعلم‏.‏

وقد اختلف العلماء -  هل يختص الحصر بالعدو‏؟‏ فلا يتحلل إلا من حصره عدو، لا مرض ولا غيره - على قولين‏:‏ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أمنتم‏}‏ فليس الأمن حصراً‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق لحديث‏:‏ ‏(‏من كسر أو وجع أو عرج فقد حلَّ وعليه حجة أُخرى‏)‏ ‏"‏رواه أحمد‏"‏وروي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أنهم قالوا‏:‏ الإحصار من عدو أو مرض أو كسر‏.‏ وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت‏:‏ يا رسول اللّه إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال‏:‏ ‏(‏حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما استيسر من الهدى‏}‏ عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول‏:‏ ‏{‏فما استيسر من الهدى‏}‏ شاة، والهدي من الأزواج الثمانية من الإبل، والبقر والمعز والضأن وهو مذهب الأئمة الأربعة‏.‏ وروي عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر، وروي مثله عن سعيد بن جبير‏.‏

قلت ‏:‏ والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر قال‏:‏ أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة، وعن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فما استيسر من الهدي‏}‏ قال‏:‏ بقدر يسارته، وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ إن كان موسراً فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن اللّه أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هدياً، والهديُ من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أُم المؤمنين رضي اللّه عنها قالت‏:‏ أهدى النبي صلى اللّه عليه وسلم مرة غنماً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وليس معطوفاً على قوله‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ كما زعمه ابن جرير رحمه اللّه، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حالة الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق ‏{‏حتى يبلغ الهدي محله‏}‏ ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارناً، أو من فعل أحدهما إن كان مفرداً أو متمتعاً كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت‏:‏ يا رسول اللّه ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏‏.‏ روى البخاري عن عبد اللّه بن معقل قال‏:‏ قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فسالته عن فدية من صيام فقال‏:‏ حُملتُ إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي فقال‏:‏ ‏(‏ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة‏؟‏‏)‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ ‏(‏صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك‏)‏ فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة، وعن كعب بن عجرة قال‏:‏ أتى عليّ النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقملُ يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال‏:‏ ‏(‏يؤذيك هوام رأسك‏؟‏‏)‏ قلتُ‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة‏)‏، قال أيوب‏:‏ لا أدري بأيتهن بدأ ‏"‏رواه الإمام أحمد‏"‏‏.‏

وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏، قال‏:‏ إذا كان أو فأية أخذت أجزأ عنك‏.‏ وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاووس نحو ذلك‏.‏ قلت ‏:‏ وهو مذهب الأئمة الأربعو وعامة العلماء، أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق بفرق، وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء، أيَّ ذلك فعل أجزأه، ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏ ولما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم كعب ابن عجرة بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال‏:‏ ‏(‏انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة ايام‏)‏‏.‏وقال ابن جرير عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏ قال‏:‏ إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرةُ أيام، والصدقة على عشرة مساكين كل مسكين مكوكين مكوكاً من تمر ومكوكاً من بر، والنسك شاة‏.‏ وقال الحسن وعكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏ففدية من صيام أو صدقة أو نسك‏}‏ قال‏:‏ إطعام عشرة مساكين، وهذان القولان من سعيد بن جبير والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر، لأنه قد ثبتت السنّة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام لا ستة أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن، وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا، واللّه أعلم‏.‏ وقال طاووس‏:‏ ما كان من دم أو طعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء، وقال عطاء‏:‏ ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي‏}‏‏:‏ أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج، وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء، والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح‏.‏ ‏{‏فما استيسر من الهديْ أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة وله أن يذبح البقر، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر، وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران ابن حصين قال‏:‏ نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وفعلناها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات‏.‏ قال رجل برأيه ما شاء، قال البخاري‏:‏ يقال إنه عمر، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحاً به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول‏:‏ إنْ نأخذ بكتاب اللّه فإن اللّه يأمر بالتمام يعني قوله‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج والعمرة لله‏}‏ وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الّله عنه ينهى عنها محرِّماً لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي اللّه عنه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة‏}‏، معناه فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة ايام في الحج أي في أيام المناسك‏.‏ قال العلماء‏:‏ والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر، أو حين يحرم، ومنهم من يجوز صيامها من أول شوّال، وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ إذا لم يجد هدياً فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله، وعن ابن عمر قال‏:‏ يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة‏.‏ فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق‏؟‏ فيه قولان للعلماء، الأول‏:‏ أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر‏:‏ لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي ‏"‏رواه البخاري‏"‏وعن علي أنه كان يقول‏:‏ من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق لعموم قوله‏:‏ ‏{‏فصيام ثلاثة أيام في الحج‏}‏ والثاني‏:‏ أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر اللّه عزّ وجل‏)

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبعة إذا رجعتم‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ إذا رجعتم إلى رحالكم، و الثاني ‏:‏ إذا رجعتم إلى أوطانكم‏.‏ وقد روى البخاري عن سالم بن عبد اللّه أن ابن عمر قال‏:‏ تمتع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، فأهلَّ بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبدأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم مكة قال للناس‏:‏ ‏(‏من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصِّر وليحلِّل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ قيل‏:‏ تأكيد، كما تقول العرب‏:‏ رأيت بعيني، وسمعت بأذني، وكتبت بيدي‏.‏ وقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولا تخطه بيمينك‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ معنى كاملة الأمر بإكمالها وإتمامها واختاره ابن جرير، وقيل‏:‏ معنى كاملة أي مجزئة عن الهدي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام‏}‏، قال ابن جرير‏:‏ واختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله‏:‏ ‏{‏لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام‏}‏ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم، فقال بعضهم، عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم أهل الحرم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول‏:‏ يا أهل مكة لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم وادياً أو قال‏:‏ يجعل بينه وبين الحرم وادياً ثم يهل بعمرة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت - كما قال عطاء - من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع، وقال عبد اللّه بن المبارك‏:‏ من كان دون الميقات، وقال عبد الرزاق‏:‏ من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع، وفي رواية عنه‏:‏ اليوم واليومين، واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة، لأن من كان كذلك يعد حاضراً لا مسافراً، واللّه أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي فيما أمركم ونهاكم ‏{‏واعلموا أن الله شديد العقاب‏}‏ أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏197‏)‏

‏{‏الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ‏}‏

اختلف أهل العربية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ تقديره الحج حج أشهر معلومات، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحاً، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد واحتج لهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسالونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج‏}‏ وبأنه أحد النسكين فصحَّ الإحرام به في جميع السنة كالعمرة، وذهب الشافعي إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عمرة‏؟‏ فيه قولان عنه، والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلى في أشهره مروي عن ابن عباس وجابر ومجاهد رحمهم اللّه، والدليل عليه قوله‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة، وهو أن وقت الحج أشهر معلومات، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة، فدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة‏.‏

عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏، وعنه أنه قال‏:‏ من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، وقول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيما قول ابن عباس تفسيراً للقرآن وهو ترجمانه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أشهر معلومات‏}‏، قل البخاري‏:‏ قال ابن عمر‏:‏ هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد، واختار هذا القول ابن جرير، قال‏:‏ وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب رأيته العام ورأيته اليوم وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم، وقال الإمام مالك والشافعي في القديم‏:‏ هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة بكماله، وهو رواية عن ابن عمر أيضاً‏.‏ وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر، وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي اللّه عنهما أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن فرض فيهن الحج‏}‏ أي وأجب بإحرامه حجاً، قال ابن جرير‏:‏ أجمعوا على أن المراد من الفرض ههنا الإيجاب والإلزام، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏فمن فرض فيهن الحج‏}‏ من أحرم بحج أو عمرة، وقال عطاء‏:‏ الفرض الإحرام، وقوله‏:‏ ‏{‏فلا رفث‏}‏ أي من أحرم بالحج أو العمرة، فليجتنب الرفث وهو الجماع كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك، وكذلك التكلم به بحضرة النساء‏.‏ قال عبد اللّه بن عمر‏:‏ الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إنما الرفث ما قيل عند النساء، وقال طاووس‏:‏ سألت ابن عباس عن قول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فلا رفث ولا فسوق‏}‏ قال‏:‏ الرفث التعريض بذكر الجماع وهي العرابة في كلام العرب وهو أدنى الرفث، وقال عطاء‏:‏ الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش، وقال أبو العالية عن ابن عباس‏:‏ الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز، وأن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا فسوق‏}‏ عن ابن عباس‏:‏ هي المعاصي، وعن ابن عمر قال‏:‏ الفسوق ما أصيب من معاصي اللّه صيداً أو غيره، وقال آخرون‏:‏ الفسوق ههنا السباب قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق وقتاله كفر‏)‏، وقال الضحّاك‏:‏ الفسوق التنابز بالألقاب‏.‏ والذين قالوا‏:‏ هو جميع المعاصي الصواب معهم، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهياً عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد - ولهذا قال‏:‏ ‏{‏منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم‏}‏ - وقال في الحرم‏:‏ ‏{‏ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم‏}‏، واختار ابن جرير أن الفسوق ههنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد، وحلق الشعر، وقلم الأظفار، ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر، وما ذكرناه أولى، وقد ثبت عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏)‏ ‏"‏رواية الصحيحين ‏(‏رجع كيوم ولدته أمه‏)‏ وليس فيها خرج من ذنوبه‏.‏ ولفظ مسلم في أوله ‏(‏ من أتى هذا البيت‏)‏، وفي رواية للبخاري ‏(‏من حج للّه‏)‏‏"

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جدال في الحج‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما ‏:‏ ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه، وقد بيّنه اللّه أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح والقول الثاني ‏:‏ أن المراد بالجدال ههنا المخاصمة‏.‏ قال ابن جرير عن عبد اللّه بن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏ولا جدال في الحج‏}‏ قال‏:‏ أن تماري صاحبك حتى تغضبه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏ولا جدال في الحج‏}‏ المراء والملاحاة حتى تُغْضب أخاك وصاحبك‏.‏ وعن نافع أن ابن عمر كان يقول‏:‏ الجدال في الحج‏:‏ السباب والمراء والخصومات‏.‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏ ‏"‏أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن جابر‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير يعلمه الله‏}‏‏:‏ لما نهاهم عن إيتان القبيح قولاً وفعلاً، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وتزودوا فإن خير الزاد التقوى‏}‏، عن عكرمة أن أناساً كانوا يحجون بغير زاد فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وتزودوا فإن خير الزاد التقوى‏}‏، وعن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وتزودوا فإن خير الزاد التقوى‏}‏ ‏"‏رواه البخاري وأبو داود‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خير الزاد التقوى‏}‏ لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا، فأرشدهم إلى زاد الآخرة وهواستصحاب التقوى إليها، كما قال‏:‏ ‏{‏وريشاً ولباس التقوى ذلك خير‏}‏، لما ذكر اللباس الحسي، نبه مرشداً إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع والطاعة والتقوى، وذكر أنه خير من هذا وأنفع‏.‏ قال عطاء‏:‏ يعني زاد الآخرة، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وتزودوا‏}‏ قام رجل من فقراء المسليمن فقال‏:‏ يا رسول الله ما نجد ما نتزوده، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تزودْ ما تكفّ به وجهك عن الناس وخير ما تزودتم التقوى‏)‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏}‏، يقول‏:‏ واتقوا عقابي ونكالي وعذابي، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏198‏)‏

‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ‏}‏

روى البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فنزلت‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم‏}‏ ‏"‏رواه البخاري عن ابن عباس‏"‏في مواسم الحج، ولبعضهم‏:‏ فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وروى أبو داود عن ابن عباس قال‏:‏ كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون أيام ذكر فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم‏}‏‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة فقرأ ابن عمر‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ وهذا موقوف وهو قوي جيد، وقد روي مرفوعاً‏.‏ عن أبي أمامة التيمي قال، قلت لابن عمر‏:‏ إنا نكري فهل لنا من حج‏؟‏ قال‏:‏ أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعروف‏، وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم‏؟‏ قال، قلنا‏:‏ بلى، فقال ابن عمر‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم‏}‏ فدعاه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أنتم حجاج‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن أبي أمامة التيمي‏(‏ وعن أبي صالح مولى عمر قال، قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين كنتم تتجرون في الحج‏؟‏ قال‏:‏ وهل كانت معايشهم إلا في الحج‏؟‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام‏}‏ إنما صرف عرفات - وإن كان علماً على مؤنث - لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات، سُمِّيَ به بقعةٌ معينة فروعي فيه الأصل فصرف، اختاره ابن جرير، وعرفة موضع الوقوف في الحج، وهي عمدة أفعال الحج، ولهذا روي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏الحج عرفات - ثلاثاً - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك، وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح‏"‏ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال‏:‏ ‏(‏لتأخذوا عني مناسككم‏)‏، وقال في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك‏)‏، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم اللّه، وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة واحتج بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال‏:‏ أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، واللّه ما تركت من جبل إلى وقفت عليه فهل لي من حج‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي‏"‏‏.‏

وتسمى عرفات المشعر الحرام والمشعر الأقصى و إلال على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها جبل الرحمة، قال أبو طالب في قصيدته المشهورة‏:‏

وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له * إلال إلى تلك الشراج القوابل

عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كأنها العمائم على رؤوس الرجال دفعوا، فأخر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس‏.‏ وفي حديث ‏"‏جابر بن عبد اللّه‏"‏الطويل الذي في صحيح مسلم قال فيه‏:‏ فلم يزل واقفاً يعني بعرفة، حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى‏:‏ ‏(‏أيها الناس السكينة السكينة‏)‏ كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما ولم يسبّح بينهما‏:‏ المراد به لم يتنقل أثناء الجمع بين الفريقين شيئاً ثم اضطجع، حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا اللّه وكبَّره وهلَّله ووحّده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سئل كيف كان يسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين دفع‏؟‏ قال‏:‏ كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، والعنق هو انبساط السير، والنص فوقه‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ المشعر الحرام المزدلفة كلها، وعنه أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله عند المشعر الحرام‏}‏ فقال‏:‏ هذا الجبل وما حوله‏.‏ وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة أنه قالوا‏:‏ هو ما بين الجبلين، وقال ابن جرير‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ أين المزدلفة‏؟‏ قال‏:‏ إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر، قال‏:‏ وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة ولكن مفضاهما، قال‏:‏ فقف بينهما إن شئت، قال‏:‏ وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس‏.‏ قلت ‏:‏ والمشاعر هي المعالم الظاهرة، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم، وعن زيد بن أسلم‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرفة، وجمعٌ كلها موقف إلا محسراً‏)‏ هذا حديث مرسل، وقد قال الإمام أحمد عن جبير بن مطعم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كل عرفات موقف وارفعوا عن عرفات، وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر، وكل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح‏)‏ ‏"‏الحديث رواه أحمد وإسناده منقطع‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ تنبيه لهم على ما أنعم اللّه به عليهم من الهداية والبيان، والإرشاد إلى مشاعر الحج، على ما كان عليه من الهداية لإبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وإن كنتم من قبله لمن الضالين‏}‏ قيل‏:‏ من قبل هذا الهدى، وقيل‏:‏ القرآن، وقيل‏:‏ الرسول، والكل متقارب ومتلازم وصحيح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏199‏)‏

‏{‏ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ‏}‏

قال البخاري‏:‏ عن عائشة قالت‏:‏ كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحُمْس وسائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله‏:‏ ‏{‏من حيث أفاض الناس‏}‏، والمراد بالإفاضة ههنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفروا الله إن الله غفور رحيم‏}‏ كثيراً ما يأمر اللّه بذكره بعد قضاء العبادات ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر اللّه ثلاثاً، وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وقد روى ابن جرير استغفاره صلى اللّه عليه وسلم لأُمته عشية عرفة‏.‏ وعن شداد بن أوس قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏سيِّد الاستغفار أن يقول العبد ‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما اتسطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري وابن مردويه‏"‏وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمر أن أبا بكر قال‏:‏ يا رسول اللّه علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال‏:‏ ‏(‏قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏)‏، والأحاديث في الاستغفار كثيرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏200 ‏:‏ 202‏)‏

‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ‏.‏ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ‏.‏ أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ‏}‏

يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها‏.‏ وقوله ‏{‏كذكركم آباءكم‏}‏ اختلفوا في معناه فقال عطاء‏:‏ هو كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر اللّه بعد قضاء النسك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان أهل الجاهليلة يقفون في الموسم، فيقول الرجل منهم‏:‏ كان أبي يطعم، ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل اللّه على محمد صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا‏}‏، والمقصود منه الحث على كثرة الذكر للّه عزّ وجلّ، و أو ههنا لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ فليست ههنا للشك قطعاً وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كذلك أو أزيد منه‏.‏

ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه فقال‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق‏}‏ أي من نصيب ولا حظ، وتضمَّنَ هذا الذم التنفير عن التشبه بمن هو كذلك، قال ابن عباس‏:‏ كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون‏:‏ اللهم اجعله عام غيث، وعام خصب، وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فانزل اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الأخرة من خلاق‏}‏ ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأُخرى، فقال‏:‏ ‏{‏ومنهم من يقور ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏}‏، فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا‏.‏

وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام‏.‏ وقال القاسم أو عبد الرحمن‏:‏ من أعطي قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وجسداً صابراً فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار‏.‏ ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء‏.‏ فقال البخاري عن أنَس بن مالك‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏)‏ وكان أنَس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه‏.‏ وعن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏هل تدعو اللّه بشيء أو تسأله إياه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّلْه لي في الدنيا، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبحان اللّه لا تطيقه أو لا تستطيعه، فهلا قلت ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏}‏ قال‏:‏ فدعا اللّه فشفاه ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ انفرد بإخراجه مسلم‏"‏

 الآية رقم ‏(‏203‏)‏

‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر قال عكرمة‏:‏ يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات اللّه أكبر، اللّه أكبر، لحديث‏:‏ ‏(‏أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر اللّه‏)‏ ‏"‏رواه مسلم وأحمد‏"‏وعن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث عبد اللّه بن حذافة يطوف في منى‏:‏ ‏(‏لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر اللّه عزّ وجلّ‏)‏‏.‏ وعن عائشة قالت‏:‏ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صوم أيام التشريق وقال‏:‏ ‏(‏هي أيام أكل وشرب وذكر اللّه‏)‏ قال ابن عباس‏:‏ الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة بعده وقال علي بن أبي طالب‏:‏ هي ثلاثة‏:‏ يوم النحر ويومان بعده، إذبح في أيهن شئت، وأفضلُها أولها، والقول الأول هو المشهور، وعليه دل ظاهر الآية الكريمة حيث قال‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه من تأخر فلا إثم عليه‏}‏ فدل على ثلاثة بعد النحر، ويتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ ذكر اللّه على الأضاحي وقد تقدم أن الراجح في ذلك مذهب الشافعي رحمه الله، وهو أن وقت الأضحية من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، ويتعلق به أيضاً الذكر المؤقت خلف الصلوات والمطلق في سائر الأحوال، وفي وقته أقوال للعلماء أشهرها الذي عليه العمل أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو آخر النفر الآخر‏.‏ وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كان يكبر في قبته، فيكبر أهل السوق بتكبيره حتى ترتج منى تكبيراً وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بن الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر اللّه عزّ وجلّ‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود‏"‏ولما ذكر اللّه تعالى النفر الأول والثاني - وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف - قال‏:‏ ‏{‏واتقوا اللّه واعلموا انكم إليه تحشرون‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏204 ‏:‏ 207‏)‏

‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ‏.‏ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ‏.‏ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد ‏.‏ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ‏}‏

قال السدي‏:‏ نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأظهر الإسلام، وفي باطنه خلاف ذلك، وعن ابن عباس أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، وقيل‏:‏ بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم وهو الصحيح، وروى ابن جرير قال‏:‏ حدثني محمد بن أبي معشر، وأخبرني أبو معشر نجيح، قال‏:‏ سمعت سعيداً المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي، فقال سعيد‏:‏ إن في بعض الكتب‏:‏ إن عباداً ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، لبسو للناس مسوك الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، قال اللّه تعالى‏:‏ عليّ تجترئون وبي تغترون‏؟‏ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران، فقال محمد بن كعب‏:‏ هذا في كتاب اللّه، فقال سعيد‏:‏ واين هو من كتاب اللّه‏؟‏ قال، قوله اللّه‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا‏}‏ الآية‏.‏ فقال سعيد‏:‏ قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية، فقال محمد بن كعب‏:‏ إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد ‏"‏أخرجه ابن جرير عن سعيد المقبري موقوفاً‏"‏وهذا الذي قاله القرطبي حسن صحيح‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويشهد الله على ما في قلبه‏}‏ فمعناه أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز اللّه بما في قلبه من الكفر والنفاق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله‏}‏ الآية‏.‏ وقيل معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد اللّه لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه وهذا المعنى صحيح واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو ألد الخصام‏}‏ الألد في اللغة‏:‏ الأعوج، ‏{‏وتنذر به قوماً لدا‏}‏ أي عوجاً، وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر‏)‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن أبغض الرجال إلى اللّه الألد الخصم‏)‏ ‏"‏رواه البخاري عن عائشة مرفوعاً‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد‏}‏ أي هو أعوج المقال سيء الفعال، فذلك قوله وهذا فعله‏.‏ كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة‏.‏ والسعي ههنا هو القصد كما قال إخبارأً عن فرعون‏:‏ ‏{‏ثم أدبر يسعى* فحشر فنادى* فقال أنا ربكم الأعلى‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية‏:‏ ‏(‏إذا أتتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار‏)‏‏.‏ فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث، وهو محل نماء الزروع والثمار، والنسل‏:‏ وهو نتاج الحيوانات الذي لا قوام للناس إلا بهما‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا سعى في الأرض إفساداً منع الله القطر فهلك الحرث والنسل ‏{‏والله لا يحب الفساد‏}‏ أي لا يحب من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم‏}‏ أي إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له‏:‏ اتق اللّه وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحق، امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا تعرف في وجوه الذي كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا‏.‏ قل أفأنبئكم بشر من ذلكم‏.‏ النار وعدها اللّه الذين كفروا وبئس المصير‏}‏ ولهذا قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏فحسبه جهنم ولبئس المهاد‏}‏ أي هي كفايته عقوبة في ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏ لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏}‏ قال ابن عباس وجماعة‏:‏ نزلت في صهيب الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل اللّه فيه هذه الآية فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا‏:‏ ربح البيع، فقال‏:‏ وأنتم فلا أخسر اللّه تجارتكم، وما ذاك‏؟‏ فأخبروه أن اللّه أنزل فيه هذه الآية، ويروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏ربح البيع صهيب‏)‏ وروي عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال‏:‏ لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قالت لي قريش‏:‏ يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك‏؟‏ واللّه لا يكون ذلك أبداً، فقلت لهم‏:‏ أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلُّون عني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فدفعت إليهم مالي فخلوا عني، فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ربح صهيب، ربح صهيب‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه عن صهيب الرومي‏"‏مرتين وأما الاكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل اللّه كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إن لله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون‏}‏، ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس، فرد عليهم عمر بن الخطاب وابو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏208 ‏:‏ 209‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ‏.‏ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ‏}‏

يأمر اللّه تعالى عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجمع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك‏.‏ قال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ادخلو في السلم‏}‏ يعني الإسلام، وقال الضحّاك وأبو العالية‏:‏ يعني الطاعة، وقوله ‏{‏كافة‏}‏ قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة‏:‏ جميعاً، وقال مجاهد‏:‏ أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر‏.‏

ومن المفسرين من يجعل قوله تعالى ‏{‏كافة‏}‏ حالاً من الداخلين، أي ادخلوا الإسلام كلكم، والصحيح الأول وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام، وهي كثيرة جداً ما استطاعوا منها، كما قال عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلو في السلم كافة‏}‏ يعني مؤمنين أهل الكتاب، فإنهم كانوا مع الإيمان باللّه مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أُنزلت فيهم، فقال اللّه‏:‏ ‏{‏ادخلو في السلم كافة‏}‏ يقول‏:‏ ادخلوا في شرائع دين محمد صلى اللّه عليه وسلم ولا تدعوا منها شيئاً، وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ أي اعملوا بالطاعات، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف ‏{‏إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏، و‏{‏إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إنه لكم عدو مبين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات‏}‏ أي عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج، فاعلموا أن الله ‏{‏عزيز‏}‏ أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب، ‏{‏حكيم‏}‏ في أحكامه ونقضه وأبرامه، ولهذا قال أبو العالية وقتادة‏:‏ عزيز في نقمته، حكيم في أمره‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏210‏)‏

‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ‏}‏

يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات اللّه وسلامه عليه‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة‏}‏ يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك‏}‏ الآية‏.‏

وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ههنا حديث الصور بطوله من أوله عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم، وفيه‏:‏ إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات، تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحداً واحداً من آدم فمن بعده، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم فإذا جاءوا إليه قال‏:‏ ‏(‏أنا لها، أنا لها‏)‏، فيذهب فيسجد للّه تحت العرش، ويشفع عند اللّه في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد، فيشفعه اللّه ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشقّ السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة، ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة، وينزل حملة العرش والكروبيون‏.‏ قال‏:‏ وينزل الجبار عزّ وجلّ في ظلل من الغمام والملائكة، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون‏:‏ سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبوح قدوس سبحان ربنا الأعلى، سبحان ذي السلطان والعظمة، سبحانه سبحانه، أبداً أبداً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏211 ‏:‏ 212‏)

‏{‏سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب ‏.‏ زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب ‏}‏

يخبر تعالى عن بني إسرائيل كم شاهدوا مع موسى من آية بيّنة، أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به، كيده وعصاه وفلقه البحر وضربه الحجر، وما كان من تظليل الغمام عليهم من شدة الحر، ومن إنزال المن والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها، وبدلوا نعمة اللّه كفراً، أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها‏:‏ ‏{‏ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب‏}‏، كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار‏}‏‏.‏

ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين، الذين رضوا بها واطمأنوا إليها، وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها، مما يرضي اللّه عنهم، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها، وأنفقوا ما حصل لهم منها طاعة ربهم، وبذلوه ابتغاء وجه اللّه، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم، فاستقورا في الدرجات في أعلى عليين، وخلد أولئك في الدركات في اسفل سافلين، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ أي يرزق من يشاء من خلقه، ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏ابن آدم أنفقْ أُنفقْ عليك‏)‏، وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أنفقْ بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه‏}‏‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما‏:‏ اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر‏:‏ اللهم أعط ممسكاً تلفاً، وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏يقول ابن آدم‏:‏ مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس‏)‏، وفي مسند الإمام أحمد‏:‏ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏213‏)‏

‏{‏كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ‏}‏

قال ابن جرير‏:‏ عن ابن عباس قال‏:‏ كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين، قال‏:‏ وكذلك هي في قراءة عبد الّله ‏{‏كان الناس أمة واحدة فاختلفوا‏}‏، قال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ قال‏:‏ كانوا على الهدى جميعاً ‏{‏فاختلفوا فبعث الله النبيين‏}‏ فكان أول من بعث نوحاً‏.‏ وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ يقول‏:‏ كانوا كفاراً ‏{‏فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين‏}‏ والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً ومعنى، لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث اللّه إليهم نوحاً عليه السلام، فكان أول رسول بعثه اللّه إلى أهل الأرض، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم‏}‏ أي من بعد ما قامت الحجج عليهم، وما حملهم على ذلك إلى البغي من بعضهم على بعض ‏{‏فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏ وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا اللّه لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا اللّه له، فالناس لنا فيه تبع فغداً لليهود، وبعد غدٍ للنصارى‏)‏‏.‏

وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله‏:‏ ‏{‏فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه‏}‏ فاختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد، فهدى اللّه أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ليوم الجمعة‏.‏ واختلفوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس، فهدى اللّه أمة محمد للقبلة‏.‏ واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدى اللّه أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود‏:‏ كان يهودياً، وقالت النصارى‏:‏ كان نصرانياً وجعله اللّه حنيفاً مسلماً فهدى اللّه أمة محمد للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى عليه السلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً، وجعلته النصارى إلهاً وولداً، وجعله اللّه روحه وكلمته، فهدى اللّه أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم للحق من ذلك‏.‏ وكان أبو العالية يقول‏:‏ في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بعلمه بهم وبما هداهم له قاله ابن جرير ‏{‏والله يهدي من يشاء‏}‏ أي من خلقه ‏{‏إلى صراط مستقيم‏}‏ أي وله الحكمة والحجة البالغة، وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏ وفي الدعاء المأثور‏:‏ ‏(‏اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وأرزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً‏)‏‏.‏